الجدعي دمّر عناد النجومية من رحم الفرص الضئيلة

غالبا لا يقبل النجاح الارتباط بالصدفة، لكن الحظ قد يهيئ الظروف المحيطة مثلما حدث مع نجم المنتخب السعودي لكرة الطاولة نايف محمد الجدعي (30 عاما) الذي بزغ اسمه في نادي الخلود القصيمي بمدينة الرس (400 كلم شمال غربي الرياض).


وتوشح اللاعب الذي انتقل في ربيعه الـ19 لتمثيل طاولة الاتحاد، أكثر من 65 بطولة مع المنتخبات السعودية في مختلف درجاتها، وبعض بطولاته حصدها لنادييه الخلود والاتحاد، وكان أهمها انجاز كأس بطولة المملكة لنهائيات فردي الطاولة قبل نحو عقدين للمرة الأولى في عمر المسابقة المستحدثة وهو شبل بعمر التاسعة عشرة في النادي الذي يعتمد في مداخيله على الاعانات الحكومية لأندية الدرجة الثالثة (الخلود). وبعدها تلقى الجدعي ثلاثة عروض فورية من أندية الاتحاد والأهلي فالهلال.
وقبل 12 عاما من انتقاله للاتحاد، ترعرع الجدعي في صباه ابتداء من عامه السابع أمام طاولة خشبية من صنع نجار ابتاعها في ذلك الوقت لشقيقه سليمان (عضو اتحاد الطاولة الحالي ورئيس لجنة التحكيم والمسابقات)، بيد أن نايف صقل موهبته في نادي الخلود حين التحق في التاسعة من عمره لاعبا إلى جانب أشقائه سليمان وخالد وأحمد في النادي الذي اشتهر في محيطه كناد يولي اللعبة المشهورة بمسمى (تنس الطاولة) أهمية خاصة، وكان لرئيس نادي الخلود الأسبق صالح عبد الله الشبعان دور هام في انضمام الأخوة الثلاث بتأثيراته كإبن خالهم.
ونجح نايف أمام أول اختبار حقيقي بوصوله إلى المواجهة النهائية ببطولة القصيم للبراعم، لكنه خسر اللقب في مواجهة شقيقه أحمد، وعوضا عن الرضا المتاح بالوصافة في أول مشواره الرياضي، تسرب بداخل ذلك الجسد الغض الإصرار على تعويض اخفاقه، وقال نايف: (كنت أتمرن أكثر وأترقب أيام السنة لحلول البطولة التالية)، فإنحنت الثريا أمام همته، وداعب غروره لقب أول بطل في سجلات بطولات المملكة للبراعم التي استحدثت في العام 1995. بعدها، تهادى البطل الصغير في حيرة الطموحات حتى كاد يفقد بريقه.
وحين يعود الجدعي لاستذكار بطولته الأولى، يؤكد بأن خياله خلال تلك الفترة فشل في تصوير هيئته الحالية كرياضي ناجح في حصد الألقاب.. كان الجدعي يتحدث عن تلك الفترة وأصابعه تداعب مقبض كوب مليء بالقهوة الساخنة أمامه ويحلق بناظريه للأعلى: ( اعتبرت لعبة الطاولة خلال طفولتي مجرد هواية، ولم أتخيل مطلقا الاستمرار في منافساتها الرسمية؛ لكني في الوقت نفسه لم أكن لأجد وقتا أمتع من الذي أقضيه بالقرب من أحد أطراف طاولة التنس الموجودة في النادي أو البيت والمدرسة. وثمة اختلاف بين جيلنا والأجيال التالية التي تعاطت مع التقنية الالكترونية على حساب الألعاب الشعبية والرياضية. لقد كنت أقضي وقتا طويلا في ممارسة اللعبة والتدرب على اتقان فنونها).
واهتدى نايف الجدعي أخيراً إلى عدم التفريط بأولويته، فنفض بمشواره غبار نجم شق طريقه كبطل ثابت على مدار ثماني سنوات متواصلة في مسابقات الطاولة السعودية، إذ حافظ في العام التالي على كأس بطل المملكة للبراعم، وانتقل للناشئين ليحتكر البطولة ثلاث سنوات، وتكررت فعلته المشرفة بعد تصعيده إلى درجة الشباب.
ولعب الحظ دورا هاما بعد تخطي الجدعي سنواته الـ18 الأولى، إذ وجد نفسه مشاركا في بطولة أخرى مستحدثة للفئات العمرية دون الـ21 قبل الانتقال للعب أمام الكبار، ولم يكن مفاجئا إقصائه المنافسين نحو المباراة النهائية، لكن المنافسة التي اشتدت عن سابقاتها، ضاعفت العزيمة لدى ممثل نادي الرس الذي لا يزال ينظر إلى الختام الأول لبطولة المملكة تحت 21 سنة على أنه (نقطة تحول) في مسيرته الرياضية. وربما بسبب نظرته تلك؛ استطاع الجدعي كسب منافسه عبد العزيز العباد (الذي تحول لاحقا إلى أفضل زميل لدى نايف).
وحدثت ردة الفعل التي يستحقها ذلك النجم (ثلاثة عروض على طاولة رئيس نادي الخلود تطلب ود الجدعي).. أما القرار الذي جاء بمشورة الأخ سليمان فكان القبول للمفاوضات الاتحادية التي اتسمت بأرفع الامتيازات المالية. واستحسن الجدعي ذلك العرض أيضا لأنه يتيح إليه إعداد أفضل في كرة الطاولة. ولم تلعب الميول أي أدوار لدى اللاعب الذي اعترف بأهلاويته سابقا وهو يقول (من الصعب القول بأني أحببت الأهلي قبل انتقالي للاتحاد بفعل وراثة التشجيع الرياضي بين أخوتي).
وبعد سؤال للإسهاب في التفاصيل، يقول نايف الجدعي: عَرض الاتحاديون مبلغ 400 ألف ريال مقابل انتقالي (حصتي منها 150 ألفا)، أما الهلال فتأخر في عرضه. وقبل انتقالي للاتحاد بيومين، وضع فريق الاتحاد حدا لهيمنة الأهلي على لقب الدوري بعد عشر سنوات من الاحتكار. وزارنا مفاوض الاتحاد في الرس يحمل شنطة نقود ناديه، والحمد لله فبعد انتقالي لا نزال نسيطر على الدوري منذ 11 عاما.
أما الجانب الشجاع لدى نايف الجدعي، فترويه مواصلته للعبة بعد مأساة الحادث المروري الذي تعرض له خلال مراهقته قبل انتقاله للاتحاد ببضع سنوات. ووقع عليه ذلك مع شقيقه سليمان رفقة إداريهما بالخلود قبل نحو 15 عاما في طريقهم من المدينة المنورة إلى الرس بعد فراغهم من منافسات جرت من حيث نفروا إلى قدرهم المحتوم الذي أصاب الفتى نايف بكسر في الجمجمة. ويقول سليمان: اصطدمت إحدى المركبات المجاورة بجمل، فانحرفت نحونا داخل محيط قرية عرجاء بالقرب من مدينة الحناكية. ونقلونا بالاسعاف إلى أقرب مركز صحي. أما نايف فأخلي إلى المدينة بسبب خطورة إصابته. وقتها قررنا بشكل خاطئ، فطلبنا نقله إلى الرس فتسببنا بفزع والدتي ووالدي رحمه الله. وتفاقمت مصيبتنا لأن مستشفى الرس لم يقبله بسبب عدم وجود استشاري للمخ والأعصاب. وفي الأخير تكفل الأمير سلطان بن فهد بعلاج اللاعب، لكن التأخر في تنفيذ وصاياه دفعنا إلى مخاطبة الاتحاد السعودي الذي نقله إلى مستشفى دلة حيث أجريت العملية، وكنت مرافقا لشقيقي وقتها.
وأضاف سليمان: لكنه تأثر من تلك الإصابة، فتعرض إلى حادثتي تشنج، فوجد في مرة داخل شقته بجدة ينزف دما بسبب إعاقته ليده. وفي مناسبة أخرى، تأجلت إحدى مبارياته الختامية بسبب إصابته خلال الإعداد لها.
واختار الحزن أجمل فرحة لنايف الجدعي فاغتالها. فلم تكترث الأخبار المفجعة لمساعي اللاعب الذي جاهد مع زملائه في العام 2012 حتى حققوا البطولة العربية للأندية التي فشلت كافة الفرق غير المصرية من الاقتراب من لقبها طوال الـ22 سنة الأولى. ولسبب الشفقة عليه، تأخر انباؤه بوفاة والده (الذي رحل يوم فوزه بالبطولة) حتى اللحظة التي سبقت وصوله إلى الجماهير الاتحادية المتواجدة بصالة الانتظار في مطار الملك عبد العزيز الدولي بجدة بعد عودتهم من المغرب التي احتضنت بطولة الأندية العربية.
وكان محمد الجدعي والد اللاعب نايف الذي وافته منيته قبل بضعة أشهر، عاملا مسهما في تفوق ابنه رياضيا، وسط أقرانه النجديين الذين لا يرحبون بانضمام ابنائهم في الأندية الرياضية بإعتقاد تأثيرها على أفضليتي (الدين والتعليم)، لكن نايف الذي دوت صرخته الأولى خلال الـ14 من نوفمبر 1984 داخل مستشفى الرس العام، انتقل إلى منزلهم في حي الملك عبد العزيز (الصحة) في الرس برفقة والده الرجل البسيط، بحسب وصف ابن اخيه علي بن عبد الله الجدعي الذي قال عن والد اللاعب نايف: (عمي رجل بسيط ليس صارما بالحد المنفر منه، لذلك كان على علاقة ود تام بأنجاله، فكان يحبهم ويحبونه، لكنه عاش حياته ببساطة إلى درجة تفضيل الطرفة على الهم والغم، ولم يسر في اتجاه جدية أقرانه كبار السن. وكان يستقبل أصدقاء أبنائه الرياضيين في مجلس منزله).
وتبقت لنايف الجدعي أمنيتان، أولاهما شخصية وهي المشاركة في دورة ألعاب صيفية، وينظر الجدعي متطلعا إلى أولمبياد ريو دي جانيرو. أما الأخرى، فهي أحلام تطوير لعبة الطاولة بالقوانين الاحترافية.. فهل تتحقق ما تبقت من دعواته الرياضية؟

تم النشر في
مصنف كـ حوارات

بواسطة عروة العلي

ليس أكثر من كوني أحد العرى.. عروة العلي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *