مطلع العام 2009، قبل فترة يسيرة من تحولي إلى العمل المكتبي، كنت في زيارة إلى المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام، ذهبت ألقي التحية على زميلي العملاق عبد العزيز الغيامة، في مناسبة اللقاء الأول، بعد تعيينه مسؤولا للتحرير. وداخل مكتبه الصغير جرّ الحديث بعضه، فقال لي متسائلًا: “هل تظن أن رواتبنا تصرف من مبيعات الصحف؟” كانت المفاجأة التي عرفتها يومذاك أن كلفة طباعة الصحيفة الواحدة تزيد عن ضعف ثمنها المعروض للقراء!!
بعد تلك القصة بثلاثة أعوام كنت انتقلت من إحدى مطبوعات المجموعة إلى مطبوعة أخرى، صادف ذلك عامٌ تضاعفت خلاله أعداد الصحف الالكترونية إلى درجة لا يمكن تصورها، وكان منظر الاستعداد إلى المزاج العام الجديد للقراء واضحًا في صحيفة الرياضية التي انتقلت إليها لتوي، حينذاك سمعت بالخبر بمقاس الكبسولة للمرة الأولى!! قال لنا المسؤول بعد اجتماع مع أصحاب القرار في المجموعة “اختصروا الأخبار إلى الدرجة القصوى، نريدها بحجم الكبسولات، صغيرة ومثيرة للقراءة”.
قبل ذلك الاجتماع، كنت مستدعى في بداية عمل يوم ما، إلى مسؤول التحرير في صحيفة الرياضية يلفت انتباهي إلى العنوان الذي نشر في عدد ذلك اليوم، قال لي بمنتهى اللطف والصراحة “عليك أن تنسى العناوين التي تعلمتها في صحيفة الشرق الأوسط وتكتب العناوين التي تشبهنا وتشبه ذائقة قرائنا”.
وأنا الوحيد في تاريخ المجموعة السعودية الذي انتقل مرتين من الشرق الأوسط إلى الرياضية، كنت في كل مرة أشاهد استعدادًا أكبر في الرياضية منها في الشرق الأوسط لمهددات الصحافة الورقية، وكان الاستعداد الأفضل مع قدوم بتال القوس رئيسًا لتحريرها، ومن حسن حظي أني شهدت بدايات التحول في تلك المرحلة. قدّم بتال القوس دورًا يشبه دور اللاعب الإيطالي روبيرتو باجيو مع منتخب إيطاليا في مونديال 1994، إذ أنجبت إيطاليا روبرتو باجيو أثناء نكبة النصف الثاني من الثمانينات، وكذلك انحنى جيل من عمالقة الصحافة العربية “ليس السعودية فحسب” في وقت بزغ فيه نجم بتال القوس “وهو عصارتهم إن صح القول”.. في النهاية، كلاهما -بتال وروبرتو- أعطيا المحبّين آمالًا، ثم ما لبثا حتى مات كل منهما واقفًا. “إنه المشهد الأخير” مع تجاهل السؤالين الأهم: ما احتمالية وصول الطليان للنهائي بلا روبرتو؟ ومتى كان سينتهي صمود “ورق الرياضية” دون بتال؟
مطلع يناير 2024 عشت أيامًا عصيبة، كادت الصحيفة بنسختها الورقية تحتجب، وقبل أن ألتقط أنفاسي حين تأخر التنفيذ، احتجبت بالفعل بأوراقها ذات الرائحة “الحبرية” الفاتنة. حُب الصحافة موروث لدي.. وحينما احترق منزل والدي “تحديدًا مخزن الصحف” سأل رجل الإطفاء والدي بعد إنهاء مهمته “هل تطالب بأي تعويض؟” كان والدي يجيب مع إشارة لي وأنا إلى جواره “لا أطالب بشيء مطلقًا، مع أن تلك الصحف أثمن لدي من هذا الولد” ربما قصد والدي أن يزيل الغرابة من الإطفائي الذي بدا خجولًا مع طرح ذلك السؤال الاعتيادي للمتضررين؛ لأن الخسائر عبارة عن ورق، حسب ما يرى.
بعد تلك القصة بنحو 20 عامًا، تنبأ أحد كتّابي المفضلين، فهد عافت، بالخطر من تداول الصحف الورقية، وقال في “عز كورونا” إن نقل الأخبار أولًا بأول مهمة إلكترونية بحتة، ثم زاد: “أقرأ صحيفة ورقيَة. ماذا يعني ذلك؟! إنه يعني أنني خرجت لشرائها، أو أنّ أحدهم وضعها في الصندوق المعلّق قرب الباب من الخارج!. في الحالتين: الضرر قائم.. والخطر غاشم!.” .. فرددت عليه: “أنا أقرأ مقالك ضمن جملة ما أقرأ في الهزيع من الليل، ثم لا أجد “ريح قلمك” فأعيد ما قرأت مع وصول الصحف إلى باب منزلي. وأهلا بكورونا اذا كانت أنفاس الصحف الفواحة تنقله”.
ما مشاعري اليوم وأنا أملك آلاف الصحف التي جمعتها من حرّ مالي؟.. يا لحزني، إذ لم تنظر لي المجموعة التي عملت فيها 10 أعوام بعين الوفاء، وصدرت الصحيفة في ذلك اليوم الأسود، وعنوانها الأخير “مستمرون”.